كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد قدمنا الكلام على هذا، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا} [الإسراء: 22].
وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب، والمراد بذلك الخطاب غيره يقينًا قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانًا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمًَا} [الإسراء: 23] الآية، ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته، وأن أمه ماتت وهو صغير، ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} [الإسراء: 23] ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما، ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان.
فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الإسراء: 2324] الآية: إنما يراد التشريع على لسانه لأمته، ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب.
إياك أعني واسمعي يا جارة، وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة، وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله:
يا أخت خير البدو والحضاره ** كيف ترين في فتى فزاره

اصبح يهوى حرة معطاره ** إياك أعني واسمعي يا جاره

وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المراة، وقول بعض أهل العلم إن الخطاب في قوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} [الإسراء: 23] الآية، هو الخطاب بصيغة المفرد، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه. كقول طرفة بن العبد في معلقته:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك، وعلى هذا فلا دليل في الآية، غير صحيح، وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم هو النبي صلى الله عليه وسلم وعليه. فالاستدلال بالآية، استدلال قرآني صحيح، والقرينة القرآنية المذكورة، هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم، التي أولها {وبالوالدين إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر} [الإسراء: 23] الآية. ما هو صريح، في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، لا عموم كل من يصح منه الخطاب، وذلك في قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} [الإسراء: 39].
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}.
قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الحجر: 85] وفي آخر سورة قد أفلح المؤمنون. في الكلام على قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115] الآية.
قوله تعالى: {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار}.
الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي، ذلك أي خلقنا السماوات والأرض باطلًا هو ظن الذين كفروا بنا، والنفي في قوله ما خلقنا، منصب على الحال لا على عاملها الذي هو خلقنا، لأن المنفي بأداة النفي التي هي ما: ليس خلقه للسماوات والأرض، بل هو ثابت، وإنما المنفي بها، هو كونه باطلًا، فهي حال شبه العمدة وليست فضلة صريحة، لأن النفي منصب عليها هي خاصة، والكلام لا يصح دونها. والكلام في هذا معلوم في محله، ونفي كون خلقه تعالى للسماوات والأرض باطلًا نزه عنه نفسه ونزهه هنه عباده الصالحون، لأنه لا يليق بكماله وجلاله تعالى.
أما تنزيهه نفسه عنه ففي قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
ثم نزه نفسه، عن كونه خلقهم عبثًا، وبقوله تعالى: {فَتَعَالَى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم} [المؤمنون: 116] أي تعالى وتقدس وتنزه عن كونه خلقهم عبثًا.
وأما تنزيه عباده الصالحين له عن ذلك، ففي قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَامًا وَقُعُودًا وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190191] فقوله تعالى عنهم {سبحانك} أي تنزيهًا لك عن أن تكون خلقت السماوات والأرض باطلًا. فقولهم سبحانك تنزيه له، كما نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى: {فَتَعَالَى الله الملك الحق} [المؤمنون: 116] الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا، فله النار.
وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أراده وجعله من الخاسرين، وجعل النار مثواه. وذلك في قوله تعالى: {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ} [فصلت: 222324] الآية.
وقولنا في أول هذا المبحث الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وبينا هناك أن الفعل نوعان، أحدهما الفعل الحقيقي، والثاني الفعل الصناعي، أما الفعل الحقيقي، فهو الحدث المتجدد المعروف عند النحويين بالمصدر.
وأما الفعل الصناعي، فهو المعروف في صناعة علم النحو بالفعل الماضي، والفعل المضارع، وفعل الأمر على القول بأنه مستقل عن المضارع.
ومعلوم أن الفعل الصناعي ينحل عند النحويين، عن مصدر وزمن، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
المصدر اسم ما سوى الزمان من ** مدلولي الفعل كأمن من أمن

وعند جماعات من البلاغيين، أنه ينحل عن مصدر، وزمن ونسبة، وهو الأقرب، كما حرره بعض علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية، وبذلك تعلم أنه لا خلاف بينهم في أن المصدر، والزمن كامنان في الفعل الصناعي فيصح رجوع الإشارة والضمير إلى كل من المصدر والزمن الكامنين في الفعل الصناعي.
فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن في الفعل، قوله هنا {ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} الآية، فإن المصدر الذي هو الخلق، كامن في الفعل الصناعي، الذي هو الفعل الماضي في قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِك} أي خلق السماوات المذكور الكامن في مفهوم خلقنا ظن الذين كفروا.
ومثال رجوع الإشارة إلى الزمن الكامن في مفهوم الفعل الصناعي، قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمَ الوعيد} [ق: 20] أي ذلك الزمن الكامن في الفعل هو يوم الوعيد. ومثال رجوع الضمير للمصدر الكامن في مفهوم الفعل قوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] فقوله: هو، أي العدل الكامن في مفهوم اعدلوا، كما تقدم إيضاحه.
{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} أم في قوله: أم نجعل الذين، وقوله، أم نجعل المتقين، كلتاهما، منقطعة وأم المنقطعة، فيها لعلماء العربية ثلاثة مذاهب:
الأول: أنها بمعنى همزة استفهام الإنكار.
الثاني: أنها بمعنى بل الإضرابية.
والثالث: أنها تشمل معنى الإنكار والإضراب معًا، وهو الذي اختاره بعض المحققين.
وعليه فالإضراب بها هنا انتقالي لا إبطالي ووجه الإنكار بها عليهم واضح، لأن من ظن بالله الحكيم الخبير، أنه يساوي بين الصالح المصلح، والمفسد الفاجر، فقد ظن ظنًا قبيحًا جديرًا بالإنكار.
وقد بين جل وعلا هذا المعنى، في غير هذا الموضع، وذم حكم من يحكم به، وذلك في قوله تعالى الجاثية: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21].
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}.
قوله تعالى: {كتاب} خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب، وقد ذكر جل وعلا، في هذه الآية الكريمة، أنه أنزل هذا الكتاب، معظمًا نفسه جل وعلا، بصيغة الجمع، وأنه كتاب مبارك وأن من حكم إنزاله، أن يتدبر الناس آياته، أي يتفهموها ويتعقلوها ويمعنوا النظر فيها، حتى يفهموا ما فيها من أنواع الهدى، وأن يتذكر أولوا الألباب، أي يتعظ أصحاب العقول السليمة، من شوائب الاختلال.
وكل ما ذكره في هذه الآية الكريمة جاء واضحًا في آيات أخر.
أما كونه جل وعلا، هو الذي أنزل هذا القرآن، فقد ذكره في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] وقوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] وقوله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7]، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة.
وأما كون هذا الكتاب مباركًا، فقد ذكره في آيات من كتابه كقوله تعالى: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} الآية. وقوله تعالى: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]. والمبارك كثير البركات، من خير الدنيا والآخرة.
ونرجو الله القريب المجيب، إذ وفقنا لخدمة هذا الكتاب المبارك، أن يجعلنا مباركين أينما كنا، وأن يبارك لنا وعلينا، وأن يشملنا ببركاته العظيمة في الدنيا والآخرة، وأن يعم جميع إخواننا المسلمين، الذين يأتمرون بأوامره بالبركات والخيرات، في الدنيا والآخرة، إنه قريب مجيب.
وأما كونه تدبر آياته، من حكم إنزاله: فقد أشار إليه في بعض الآيات، بالتحضيض على تدبره، وتوبيخ من لم يتدبره، كقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد صلى الله عليه وسلم: 24]. وقوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82] وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول أَمْ جَاءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأولين} [المؤمنون: 68].
وأما كون تذكر أولي الألباب، من حكم إنزاله، فقد ذكره في غير هذا الموضع، مقترنًا ببعض الحكم الأخرى، التي لم تذكر في آية ص هذه كقوله تعالى في سورة إبراهيم {هذا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} [إبراهيم: 52] فقد بين في هذه الآية الكريمة، أن تذكر أولي الألباب، من حكم إنزاله مبينًا منها حكمتين أخريين، من حكم إنزاله، وهما إنذار الناس به، وتحقيق معنى لا إله إلا الله، وكون إنذار الناس وتذكر أولي الألباب، من حكم إنزاله، ذكره في قوله تعالى: {المص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 12] لأن اللام في قوله لتنذر، متعلقة بقوله: أنزل، والذكرى اسم مصدر بمعنى التذكير، والمؤمنون في الآية لا يخفى أنهم هم أولوا الألباب.
وذكر حكمة الإنذار في آيات كثيرة كقوله: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]. وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19]. وقوله تعالى: {تَنزِيلَ العزيز الرحيم لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 56] الآية. وقوله تعالى: {لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين} [يس: 70] الآية.
وذكر في آيات أخر، أن من حكم إنزاله، الإنذار والتبشير معًا، كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم: 97]. وقوله تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} [الكهف: 12] الآية.
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله أن يبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أنزل إليهم ولأجل أن يتفكروا، وذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]. وقد قدمنا مرارًا كون لعل من حروف التعليل، وذكر حكمه التبيين المذكورة مع حكمة الهدى والرحمة، في قوله تعالى: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64].
وبين أن من حكم إنزاله، تثبيت المؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
وبين أن من حكم إنزاله، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أن يحكم بين الناس بما أراه الله، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} [النساء: 105] الآية.
والظاهر أن معنى قوله: {بِمَآ أَرَاكَ الله} أي بما علمك من العلوم في هذا القرآن العظيم، بدليل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولكن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] الآية. وقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3].
وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله إخراج الناس من الظلمات إلى النور وذلك في قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1] الآية.
وبين أن من حَكَم إنزاله التذكرة لمن يخشى في قوله تعالى: {طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى} [طه: 13] أي ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى.
وهذا القصر على التذكرة إضافي، وكذلك القصر في قوله تعالى الذي ذكرناه قبل هذا {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ} [النحل: 64] الآية، بدليل الحِكَم الأخرى التي ذكرناها.
وبين أن من حكم إنزاله قرآنًا عربيًا وتصريف الله فيه من أنواع الوعيد أن يتقي الناس الله، أو يحدث لهم هذا الكتاب ذكرًا، أي موعظة وتذكرًا، يهديهم إلى الحق، وذلك في قوله تعالى: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِداود سُلَيْمَانَ} الآية.
ذكر في هذه الآية الكريمة، أنه وهب سليمان لداود، وقد بين في سورة النمل أن المرهوب ورث الموهوب له، وذلك في قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ داود} [النمل: 16].
وقد بينا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى عن زكريا {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجعله رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 56] الآية أنها وراثة علم ودين لا وراثة مال.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} الآية.
وقد قدمنا الكلام على هذه الآية، وعلى ما يذكره المفسرون فيها، من الروايات التي لا يخفى سقوطها، وأنها لا تليق بمنصب النبوة، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله} [الكهف: 2324]. وما روي عنه من السلف من جملة تلك الروايات، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان، وجلس على كرسيه وطرد سليمان إلى آخره يوضح بطلانه، قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} [الحجر: 42] واعتراف الشيطان بذلك في قوله: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40].
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)} قد قدمنا الكلام عليه موضحًا بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [الأنبياء: 81] الآية.
وفسرنا هناك قوله هنا حيث أصاب وذكرنا هناك أوجه الجمع، بين قوله هنا: {رُخَاءً} وقوله هنا:، وقوله هناك: {وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً} ووجه الجمع أيضًا بين عموم الجهات المفهوم من قوله هنا {حَيْثُ أَصَاب} أي حيث أراد وبين خصوص الأرض المباركة هناك في قوله: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأنبياء: 81].
{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: {وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلك وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} [الأنبياء: 82]. اهـ.